المواطنة في إطار التعددية الثقافية
يُعد مفهوم "التعددية
الثقافية" من المفاهيم المهمة في المجتمع الحديث، الذي بات يضم جماعات متنوعة
ثقافيا، الأمر الذي يطرح إشكاليات حول "الوحدة" في إطار
"التنوع"، والانسجام في سياق "احترام الاختلاف". ونظرا لأن
مفهوم المواطنة يقدم لنا إطارا قانونيا وثقافيا
واجتماعيا للتعايش الإيجابي بين مواطنين متنوعين ثقافيا، فإن ذلك يطرح ضرورة
لدراسة العلاقة بين المواطنة والتعددية الثقافية، تدعيما
للتنوع الثقافي في بناء المجتمع من ناحية، ودعما لعلاقة الانتماء المشترك في الوطن
الواحد من ناحية أخري.
وقد نمت فكرة التعددية
الثقافية في أميركا مثلا وأصبحت فكرة سياسية ناشطة ضد التمييز العنصري في
الستينات من القرن الماضي حيث تصاعدت المطالبة بحق الاختلاف عن الآخر وحق المساواة
في الحقوق المدنية بين جميع الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بهدف
تكسير الحد العنصري الفاصل بين البيض والسود.
إن أهم ميزة في البشرية هي اختلاف
الثقافات البشرية وتنوّعها؛ فكلّ ثقافة تختلف عن الأخرى بسبب مسارها التاريخي
الخاصّ وميّزاتها التي تجعل منها فريدة من نوعها. والحديث عن التعددية الثقافية لا
يتعلّق بالتنوع أو وجود نظرة إيجابية تجاه الاختلافات بين الثقافات والتجمعات.
خلافا لذلك فهي تدل على ترابط عميق للقضايا المتعلقة بالتنوع الثقافي والديني في
المجتمع، وعلى الإدارة الاجتماعية للتحديات والفرص التي يتيحها هذا التنوع.
وقد اختلفت تعريفات التعددية
الثقافية، إذ تستخدم الأنثروبولوجيا مفهوم التعددية الثقافية للدلالة
على جماعات تختلف أنماط الحياة لدى كل منها اختلافاً شاسعاً عن غيرها.
أما العلوم السياسية فتستعمل هذا التعبير للدلالة على جماعات ذات فروقات
ومميزات ملحوظة تعيش في مناطق جغرافية محددة وتشكل هذه المميزات الملحوظة قاعدة
لقوتها السياسية. وفي تعريف علم الاجتماع فهي رغبة بعض الجماعات في
المحافظة على اوجه الشبه في ما بين أفرادها لاعتقادهم ان الصفات والقيم والمعتقدات
المشتركة تشكل مصدر شعور الافراد بالفخر والثقة بالنفس والصحة العقلية والتماسك[1].
ويرى البرفيسور الكندي ويل كيمليكا،
أستاذ الفلسفة في جامعة كوين الكندية أن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية اليوم
تحاول أن تماهي بين أفضل الممارسات والأبعاد القانونية في التعامل مع
مسألة الأقليات، وأشار إلى الانتشار الدولي لخطاب التعددية، وان هناك لقاءات
دولية لصانعي السياسة تناقش الأفكار المتعلقة بالتسامح والتعددية. ويرى البروفيسور
أن ثمة معايير دولية يجب أن تتقيد بها جميع الدول، وهي معايير طورتها الأمم
المتحدة والمنظمات الدولية، ولم يغفل أن لهذه المعايير آثاراً بعضها إيجابية
وبعضها ينضوي على مخاطر!
ويرى البروفيسور الكندي أن في
المجتمعات الغربية ثلاثة أنواع من الأقليات: أولا الشعوب الأصلية مثل: الماوري،
والهنود الحمر. وثانيا الأقليات القومية، وتعتبر نفسها أمماً مستقلة، مثل: الكيبك
في كندا، والاسكتلنديين والغال في بريطانيا، والباسك في إسبانيا، والبورتوريكيون
في الولايات المتحدة. وأخيرا مجموعات المهاجرين.
ويرى كيمليكا أن هجرة العمال لم تولد
عنفا متواصلاً وليس لها تأثيرات عنفية متواترة، ولم تشكل خطراً على السلام الدولي،
وهي لا تشكل أولوية، بل متروكة لقوانين الدول المضيفة لمعالجتها وفق مصالحها التي
تتوافق مع شرعة حقوق الإنسان. ويؤكد البرفيسور الكندي أيضاًُ أن جميع الدول
الغربية التي لديها شعوب أصلية وأقليات قومية، باتت اليوم دولاً متعددة القوميات،
تعترف بوجود شعوب وأمم داخل الدولة، ويتم هذا الاعتراف بسلسلة من حقوق الأقليات
التي تشمل الحكم الذاتي واستخدام لغة الأقلية كلغة رسمية. وأن هذه التجربة الغربية
ناجحة وقابلة للتعميم. ويدعو البرفيسور كيمليكا الدول الأخرى أن تحذو حذو الغرب في
ما يخص هذه المسائل، مع حقها في إيجاد معايير محلية للتعامل مع أقلياتها، ويرى أن
الأمم المتحدة فشلت حتى الآن في إقناع المنظمات المحلية في قبول هذا التحدي. إذ
يسود مناخ يصعب فيه مناقشة موضوع حقوق الأقليات، لا سيما في البلدان المستعمرة
سابقاً، لأن هذه الدول واجهتها قضية الأقليات قبل ترسيخ الدولة وبناء المجتمع
والاقتصاد، بينما الدول الغربية عاشت نوعاً من التعاقب أو التوالي في الديمقراطية
والازدهار الاقتصادي.
ولكن يرى نقاد هذا الخطاب الليبرالي
الغربي، أن هذا الاهتمام بالقوميات في الدول الفقيرة والتي تعاني من مشاكل عديدة،
هو نوع من الإرث الاستعماري الذي يريد أن يفرض قيما وثقافة الهيمنة على باقي
العالم، وأن تاريخ الغرب هو تاريخ هيمنة الأغلبية، وأن الحكم الذاتي عنده هو نوع
من حماية الأقليات الهشة. ورغم الاعتراضات، فإن الغرب والمنظمات الدولية، كالأمم
المتحدة والبنك الدولي ومنظمة العمل العالمية، لم تعد جميعها توافق على أن مسألة
تعامل الدول مع أقلياتها هي قضية محلية، وليس فيها ما يهم المجتمع الدولي. حاولت
هذه المنظمات وما تزال تحاول قوننة معايير الحد الأدنى لسلوك الدول، فيما يتعلق
بأقلياتها ولإرساء آلية عمل لمراقبة التزام الحكومات بتلك المعايير، حتى إن البنك
الدولي قد أعلن أن حقوق الشعوب الأصلية هي شرط مسبق لأية دولة تسعى للحصول على
مساعدات وقروض.
ويرى البرفيسور كيمليكا أن الخطاب
الكوني الجديد قائم على التعددية الثقافية، وأن تدويل العلاقات مع الآليات في
الدول قد وصل حداً ما عاد بالإمكان الرجوع عنه، وهو اليوم موضع جدل على مستوى
العالم، ويلاقي تأييداً منقطع النظير عند بعض الأطراف المحلية الفاعلة، ويواجه
بالرفض الكامل من قبل بعض الأطراف الأخرى، وهو موضع مقاومة فعلية من أطراف ثالثة.
ويعترف البرفيسور بأن النقاد غالباً ما يجادلون بأن خطاب التعددية الثقافية
والمقاييس الدولية، إنما تعكس بشكل مميز الظروف أو الهموم الغربية، التي ليس لها
علاقة أو حاجة بهموم الأمم الأخرى[2].
وقد حذر تريفور فيليبس رئيس لجنة
المساواة العرقية في بريطانيا من ازدياد الانفصال بين الفئات العرقية المختلفة في
بريطانيا. وقال فيليبس ان بعض المناطق في بريطانيا آخذة في التحول الى مناطق
منعزلة تشبه ال"غيتو". وحذر رئيس اللجنة من أن فشل الجامعات والمدارس في
ادماج الأقليات العرقية قد يعني عزلة الأقليات عن مسايرة التطور في المجتمع
البريطاني. كما أشار تريفور ان هذا الوضع قد يساعد على زيادة حدة التطرف الديني
بين بعض الأقليات. ودعا المدارس التي تضم تلاميذ من أبناء السكان البيض لقبول
أبناء الأجناس العرقية المختلفة للدرسة فيها. وأضاف أن الانعزالية التي تتجه اليها
بعض المجتمعات والجاليات في بريطانيا قد تؤدي الى انقسام مماثل لما شاهده العالم
في نيو أورليانز بعد حدوث اعصار كاترينا. وهذه ليست المرة الأولى التي يدق فيها
ناقوس الخطر في بريطانيا. فمن قبل أشار تقرير أجري في أعقاب أحداث الشغب التي وقعت
في البلاد في عام 2001 الى هذه القضية. وحذر التقرير من أن الجاليات المختلفة في
بريطانيا تعيش حياة متوازية لاتتميز بالاختلاط الحقيقي، وطالب بادخال تعديلات
كبيرة على سياسات الدولة في هذا المجال. ويرى منتقدو التعددية الثقافية أن هذه
السياسة تصنف الناس بحسب لونهم وأصولهم التي ينحدرون منها مما يكرس معاملتهم
بأسلوب مختلف. ويقول المنتقدون ان صناع القرار في بريطانيا يقررون أسلوب معاملة
المواطنين بحسب أصولهم العرقية أولا وليس كمواطنين متساويين. وبالمقابل فان مؤيدي
التعددية الثقافية يرون أنها تسهم في تقوية أواصر المجتمع، وتنشر روح التسامح بعرض
صور وأنماط الحياة المختلفة لكل المواطنين مهما كانت أصولهم[3]؛ فالتنوع
الثقافي الخلاق يثري الحياة الانسانية ويمد المجتمعات المختلفة بالحيوية ومن هنا
اصبح التركيز علي قبول شرعية التعددية الثقافية داخل كل مجتمع, بما يعني حقوق كل
جماعة ثقافية في التعبير الثقافي عن نفسها, في حدود حق المواطنة المكفول للجميع. غير أن ذلك
الوضع يثير اشكالية مهمة, وهي ان تعدد الجماعات في المجتمع قد يفرض مطالب
متناقضة علي الحياة السياسية خصوصا في المجتمعات المتعددة الثقافات, فكيف يمكن
لهذه المجتمعات ان تعمل؟ والجواب أن اي مجتمع لكي يعمل بكفاءة لابد ان يكون
مستندا الي قاعدة من القيم المشتركة التي تتقيد بها كل الجماعات المؤسسة له,
وهناك آراء مختلفة بشأن القيم المشتركة وأولوياتها وروح التضامن التي ينبغي ان
تسود[4].
ما علاقة التنوع والتعددية بالمواطنة؟
لا توجد مواطنة حقيقية من دون تعددية
حقيقية في ظل دولة الحق والقانون. وسرّ ازدهار الديمقراطية يكمن في سر ازدهار
المواطنة.
ولكن في حال تواجدت التعددية في وطن
ما وعلى سبيل المثال تعددية ثقافية أو تعددية دينية أو تعددية مذهبية وسواها ولم
تستطع الدولة تغليب الانتماء الوطني في وجود أفرادها الاجتماعي والثقافي بل ساهمت
في تعزيز التناقض فيما بينهم. فستُطرح مشكلة المواطنة والانتماء لأن أفراد هذه الدولة
سيكونون منساقين حكماً أو عفوياً أو اضطرارياً الى الالتجاء الى روابط العشيرة
والطائفة والتبعية وما اليها للدفاع والحصول على حقوقهم[5].
مفهوم المواطنة
المواطنة كلمة تتسع للعديد من المفاهيم و
التعريفات فالمواطنة في اللغة مأخوذة من الوطن وهو محل الإقامة
والحماية، و من حيث مفهومها السياسية فالمواطنة هي (صفة المواطن الذي يتمتع
بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن)، وفي قاموس علم
الاجتماع تم تعريف المواطنة: بأنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي
ومجتمع سياسي ( دولة ) ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول (المواطن) الولاء،
ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة
الحكم القائمة .
ومن منظور نفسي: فالمواطنة هي الشعور
بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية
وحماية الذات من الأخطار المصيرية (وبذلك فالمواطنة تشير إلى العلاقة مع الأرض
والبلد.
والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً
تعريب للفظة (Citizenship)
التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية: (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها
قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق - متبادلة - في تلك
الدولة، متضمنة هذهالمواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها
من مسؤوليات)[6].
أبعاد المواطنة
يتجلى البعد
السياسي للمواطنة في مدى إحساس الفرد بانتماء الفرد إلى الوطن كجسم سياسي
يتمثل في مؤسسات الدولة والأحزاب والنقابات والجمعيات، وأفكار حول الشأن العام
والمجال العمومي، والأفكار التي تتبلور لدى الفرد حول هذا الجسم، ومدى سعي الفرد
للتأثير فيه عن طريق الولاء أو المعارضة للنظام، أو الخوف منه، والابتعاد عنه، أو
الثورة عليه. ويهتم البعد الثقافي بما يوفره الوطن من إحساس
بالانتماء إلى جماعة تمثل في الهوية، وتتجسد هذه الهوية المشتركة فيما يجمع الفرد
مع غيره من ممارسات الحياة اليومية من عادات الأكل واللباس والموسيقى وطقوس
الأعياد والحفلات، كما أنها تتجسد في الرموز المشتركة لما يمثل الهوية الوطنية، أو
الهويات الجماعية المتعايشة في ظل الوطن الواحد. وتتمثل فكرة الوطنية
على المستوى الاقتصادي فيما يوفره الوطن من ما تسميه الكتابات الحقوقية
"شروط الحياة الكريمة" والتي تعني سوسيولوجيا ظروف الارتقاء
الاجتماعي[7].
هذه الأبعاد المتنوعة التي تجسد محتوى
المواطنة، ليست مستقرة لا كأفكار ولا كممارسات، بل إنها تشهد تقلبات باستمرار
نتيجة للتحولات التي يعرفها الوطن، أو الدولة الوطنية، ويعرفها المجتمع على
المستويات الديمغرافية والسوسيو-سياسية، أو بسبب التوسع الهائل لظاهرة العولمة.
وللمواطنة دلالات تتجاوز التعريفات
القانونية لها. وذلك لأنه ازدادت أهميتها ونحن في خضم عمليات التغير الكبري التي
سبق أن ألمحنا إليها. وقد سبق للباحث المعروف نوربرتو بوبيو أن قرر
نقطة البداية في المواطنة هي محاولة الناس العاديين فرض
النظام علي الفوضي وليس هناك نهاية في الأفق يمكن تحديدها في مجال تطوير
معاني المواطنة ومجالاتها, فالبحث فيها عملية
مستمرة, ومع ذلك يمكن القول إن ماضي مفهوم المواطنة يؤثر علي الطريقة التي ينظر بها
أغلب الناس في المجتمعات الصناعية المتقدمة إليها. فالمواطن الحديث هو في
الحقيقة نتاج قرون من عملية بناء الأمة التي تضمنت معارك مستمرة في مجال تحديد
الانتماءات السياسية, وحول القواعد التي ينبغي أن تحكم ممارسة السلطة السياسية
داخل أطر اقليمية محددة. ولعل هذا الذي دفع ببعض الباحثين إلي التأكيد علي
أن المواطنة عادة
ماتعرف بالاستناد إلي القومية. فالمواطنون هم أعضاء منظمون في مجتمعات قومية,
يعطونها ولاءهم ويتوقعون منها حمايتهم. وهي بالتالي هويتهم التي يتعاملون بها مع
مواطنين من أقطار أخري. ويمكن القول بالتالي إن الاحساس بالتضامن المرتبط
بالمواطنة يقوم علي أساس رسم الحد الفاصل بيننا و بينهم, أو بعبارة أخري بين
الأنا والآخر غير أن الاحساس له مردود سلبي كما يؤكد جدنجز الذي ينتقد الاحساس
المفرط بالوطنية الذي استغلته نظم شمولية لتحقيق أهداف قومية ضيقة, وعلي حساب
الشعوب الأخري.
ينظر للمواطنة في الوقت الراهن
باعتبارها أفقا مفتوحا, ويلفت النظر في هذا المجال حكم مهم أصدرته المحكمة
الامريكية الدستورية العليا عام1950 ذهبت فيه إلي أن المواطنة هي الحق في الحصول علي
الحقوق.! وفي ضوء هذا التعريف الجامع فإن بعض الباحثين يرون أن له آثارا مهمة في
مجال مضمون المطالب, والأسبقيات السياسية, وفي مجال توسيع الفضاءات العامة
للنضال في سبيل الحقوق, والتي يمكن أن تتغير من حين لآخر.ولابد لهذه العملية
أن تؤدي في النهاية إلي اتساع مجال المواطنة. ولعل مما يساعد علي هذا في الوقت
الراهن, الثورة الاتصالية التي مكنت الناس عبر أقطار العالم علي تبادل الأفكار
حول المواطنة والمجتمع
المدني.
أدت تطورات النظام العالمي إلي
تأثيرات شتي علي المواطنة لعل أهمها شيوع العلاقات
المتعددة الاطراف وظهور الاقليمية الجديدة, لعل من أبرزها الاتحاد الأوروبي,
والذي أدي إلي ظهور مواطنة أوروبية بالاضافة إلي المواطنات الاقليمية المتعددة.
وقد واجهت المواطنة الكلاسيكية إرهاصات الأزمة
عندما دخل العالم في التجربة السياسية للتكتلات الكبرى ونخص بالذكر منها الاتحاد
الأوروبي. لقد تتبع الكثير من الجدال الساخن حول معضلة المواطنة في ظل هاته التكتلات، فقد إعتاد
القوم في أوروبا إلى إبداع ما أطلقوا عليه "المواطنة الأوروبية". وكان
على الساسة والباحثين أن يؤثثوا هذا المفهوم المركب والجديد بترسانة من القيم
المستجدة من البيئة وقبول وضع اللجوء والتنمية المشتركة والدفاع المشترك ... الخ
واللائحة طويلة. والاتجاه يسير نحو إقرار دستور للاتحاد يكون مضمونه تعاهديا
بالاتفاق على الحدود الدنيا من الاشتراطات القانونية والسياسية. هكذا فإن قيام
الاتحاد الأوروبي – الذي بدأ صغيرا وهو آخذ في الاتساع- أدخل تعديلات على
رابطة المواطنة وبالتالي على الدولة والمجتمع،
وتمثل هذه التعديلات مدخلا نحو إزالة الموانع التي كانت تفرضها الحدود الاقتصادية
والاجتماعية والجغرافية للانتقال من عهد الأوطان إلى عهد الكيان السياسي الكبير
الخارق للحدود، وإنشاء فضاء أوسع ينتقل فيه الأوروبيون بكامل الحرية، وما يستتبع
ذلك من حمايات قنصلية ودبلوماسية وتوحيد للعملة والرخص والوثائق التعريفية
والجوازات وغيرها.
ويمكن القول أنه بإنشاء الاتحاد
الأوروبي برز شكل جديد من المواطنة بحيث لا تكون علاقتها بدولة
واحدة بل تتجاوزها من الدولة الواحدة إلى مجموع الدول التي توحدها نصوص دستورية
ومواثيق تنسق السياسات والمواقف والبرامج في كافة المجالات . أكيد أن مسألة الفكر
في أوروبا عدم اهتدائه إلى مصطلحات جديدة موافقة لتوصيف هذه الطفرة النوعية في
البناء السياسي للدولة والمجتمع. والذي يزيد في حدة هذه المأساة أن العقل الأوروبي
الجمعي تنبه بشكل غير موعى به إلى بروز معالم "هوية بين وطنية" تشاركية
وتعاهدية كفيلة بان تقوي الوعي الأوروبي العام باعتماد متبادل بين الدول ومكونات
المجتمعين السياسي والمدني.
وحين هلّت العولمة وترسخت اختياراتها
ومناهجها وممارساتها لم نعد أمام إرهاصات أزمة، بل دخلنا في عمق الأزمة سواء
بالنسبة (للدولة –الوطن) أو المجتمع أو المواطنة وأصبحنا وجها لوجه أمام تصور
لرابطة كونية لم يعثر بعد على كلمة أو مصطلح يعبر عنها، يطلق عليها مؤقتا
"المواطنة الكونية أو الكوكبية" ذلك ما دفع (ألان تورين) إلى الإقرار
بأن رابطة المواطنة تعاني اليوم أزمة عميقة. إن
النظام العولمي يتجه حاليا إلى الشروع في عملية تشبيك للدولة في العالم بأسره يحول
دون اشتغال أية دولة خارج الشبكة الكوكبية بضغوطها وإكراهاتها الاقتصادية بالأساس
والسياسية والثقافية والاجتماعية بالتبعية. الماسك بميكانيزمات اشتغال الشبكة هو
رأس المال العالمي الذي هو لحد الآن تحت الوصاية المطلقة للشركات العملاقة
الأمريكية. لقد أصبحت دولة الفضاء الوطني خرافة، لذلك نحن على حد قول (أرجون
أبادوري) "في حاجة إلى تقنيات نظرية وسياسية تمكننا من تدبير الهوية والوطنية
بمصطلحات مستقلة، إنها مسألة أساسية، وعلى السياسات أن تشجع تعدد الهويات بدلا
من تشجيع المواطنة الواحدة"[8].
ويمكن القول إن تبلور وعي كوني بصورة
متزايدة قد يؤدي إلي بروز مواطنة كونية رخوة. ولعل هذا مادعا بعض الباحثين إلي
اقتراح انشاء جمعية عامة للشعوب علي غرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم
في عضويتها الدول.
صور جديدة للمواطنة:
اجتهد بعض علماء الاجتماع في حصر
صور المواطنة الجديدة
التي أبرزتها التطورات العالمية الراهنة, ومن أبرزهم جون يوري أستاذ
علم الاجتماع في جامعة لانكستر في بريطانيا. وله دراسة مهمة منشورة عن العولمة
والمواطنة جاء فيها أن هناك صورا جديدة ابتدعت للمواطنة هي بإيجاز شديد:
3ـ المواطنة الكوزموبوليتانية وهي تعني كيف
ينمي الناس اتجاها إزاء المواطنين الآخرين والمجتمعات والثقافات الاخري عبر
الكوكب.(9)
المواطنة متعددة الثقافات:
تقوم فكرة "المواطنة متعددة الثقافات"
التي يطرحها البروفيسير طارق مودود على حقيقة أن لكل مواطن في المجتمع حقوقا فردية
باعتباره فردا وليس باعتباره جزءا من جماعة معينة، فالمواطنة ليست هوية أحادية
منفصلة بشكل تام عن الهويات الأخرى، ومن حق كل جماعة أو طائفة داخل المجتمع أن
يكون لها وجود في المجتمع المدني، وأن تعبر عن نفسها وعن رؤيتها للجميع، ولذلك
فإن المواطنة عبارة
عن حوار متواصل بين أطراف متعددة يسمح لكل طائفة بأن تتوافق أو تعدل من رؤية
الطوائف الأخرى انطلاقا من منطق التعايش مع الآخرين.
فالمواطنة في أبسط معانيها تنطوي على
حق مزدوج في أن يعرفك الآخرون، وأيضا حقك في الكفاح من أجل اعتراف الآخرين بك،
ولذلك فإن المواطنة تتكون من مجموعة من الحقوق
والممارسات للمشاركة الجماعية التي تعبر عن الوعي بالخصائص المشتركة بين الطوائف
والأقليات جميعها داخل نفس الدولة، حتى إن تباينت فيما بينها فإن هناك مساحات
مشتركة بين الجميع؛ لذا فإن التغيير لا يجب أن يتم من قبل الدولة أو الحكومة أو
بقوة القانون، بل يجب أن يكون لأفراد المجتمع أنفسهم دور في الدفع تجاه التغيير
بحشد قوى جماعات الضغط ومؤسسات المجتمع المدني.
والمواطنة ليست قاصرة على الدولة
وحدها، بل إنها تتوزع عبر المجتمع وتناسب النماذج الثقافية المتعددة داخل المجتمع،
وتعبر عنها على نحو يخالف نظام الطوائف أو الملل الذي أحدثته الإدارة العثمانية
إبان الخلافة العثمانية الذي كان يسمح لكل الطوائف والأقليات أن تعيش وفق مبادئ
معتقداتها أو شرائعها، فهذه المواطنةتسعى
للتجميع لا التفريق، وبالتالي تهيئ للجميع المساواة في إطار هذه المواطنة. ويرى
البروفيسير طارق مودود أن الأمر لا ينظر إليه فقط في سياق الحكمة الواقعية بل أيضا
أنه يعد من صميم أخلاقيات ومبادئ المواطنة متعددة الثقافات التي يجب أن
تسعى لاحتواء كل الجماعات المهمشة وتدير معها الحوار لتصل للفهم المتبادل[10].
[6] سعيد
عبد الحافظ، المواطنة : حقـوق و واجـبات، مركز ماعت
للدراسات الحقوقية والدستورية، القاهرة، 2007، ص 10.
[7] عبد
الحي المودن، مغاربة العالم، الانتماءات والمشاركة : رهان المواطنة، المجلس
الاستشاري لحقوق الانسان، الرباط 2-3 يونيو2007 ص ص 2-3.